منتديات ستار تازا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الطوفان الأزرق 1

اذهب الى الأسفل

الطوفان الأزرق 1 Empty الطوفان الأزرق 1

مُساهمة  Admin الخميس يوليو 24, 2008 12:53 pm

وقف الدكتور هالين يتفرج من خلف الزجاج على العاصفة المتوحشة وهي تفترس مطار كيندي الدولي بنيويورك. إلى جانبه كان يقف زميله الياباني ورفيقه في السفر، الدكتور ناتاكا، يحملق في ظلام الليلة الغاضبة في عصبية لا يكاد يخفيها وجهه الشرقي الجامد ونظرته الباردة.

وشعر الدكتور هالين، دون أن يدري لماذا، بخوف من نوع غريب ينتقل إليه من زميله الياباني.ولمع البرق على وجه ناكاتا النحاسي فلاحظ هالين ارتعاش عصب رقيق تحت شفته السفلى، وآخر تحت عينه اليسرى.

وبعد الصمت الذي أعقب انفجارات الرعد المتداركة سمع صوت المطر المتهاطل على أرضية المطار.

وأفاق الدكتور هالين من غيبوبته على صوت الأبواق وهي تعلن رقم رحلته الوشيكة القيام، وتطلب من المسافرين الاتجاه إلى بوابة الإقلاع.وانحنى الرجلان على حقيبتيهما، وانضما إلى الصف في صمت. ولاحظ الدكتور هالين باستغراب عابر انفراج أسارير زميله الياباني، فعزا انقباضه الأول إلى طول الانتظار، وليس إلى الخوف من القيام في العاصفة، كما تصور في البداية.وباستغراب عابر كذلك، فكر، وهو يعقد حزام المقعد، في سبب قيام الطائرة في هذا الجو العاصف، ولكنه، تصور أن تكون هناك علامة انفراج قريب في حالة الطقس..

ووقفت النفاثة العملاقة وحيدة، على غير العادة، على رأس مدرج المطار الدائم الازدحام، تنتظر الإذن لها بالقيام.وبعد انتظار لانهائي أقلعت بشحنتها البشرية، تاركة الأرض نحو سماء كالحة مُكفهرة.

وساد صمت عصيب داخل الطائرة وهي تصارع الطبيعة الغاضبة، فتهتز وتهوى، وتنطفىء الأنوار بداخلها ثم تعود إلى الاشتعال.

وأمسك الدكتور هالن بذراعي كرسيه بيد مبتلة، وهو ينظر من النافذة، محاولاً أن يرى شيئاً يستأنس به. كان الظلام خاثراً لا تخترقه إلا ومضات البرق الوهاج التي كانت تكشف عن خيوط الوابل الهاطل الذي كان يُسمع وقعه شديداً على الطائرة.

وقصف الرعد فهز كيان المركبة الضخمة، وانطفأت أنوارها ثم عادت..ومرت ستون دقيقة بثوانيها في ذلك الطقس المتوحش، وركاب الطائرة وحتى مضيفاتها مسمرون إلى مقاعدهم، شاحبي الوجوه ينتظرون الضربة القاضية..وأخيراً وجدت الطائرة مخرجاً من خلال فجوة واسعة في الغيوم، فانطلقت نحو سماء زرقاء تتلألأ بالنجوم بعيداً عن غضب العاصفة.

ولأول مرة سمع صوت الربان في بوق الطائرة، يرحب بالمسافرين بصوت ناعم مسترخٍ:

سيداتي وسادتي، مرحباً بكم على متن طائرتنا. لابد أنكم لاحظتم أننا كنا نصارع عاصفة هوجاء طوال الستين دقيقة الفارطة. وبفضل أجهزتنا الحديثة استطعنا تفادي نقط الخطر فيها. وقد أصبحت العاصفة وراءنا، وهناك أحب أن أراها."

ثم دخل في تفاصيل الرحلة.

وتنهد الدكتور هالين، ونظر إلى رفيقه الدكتور ناكاتا مبتسماً، فابتسم هذا بدوره.

وتحرَّكتْ المضيفات، وقد علا وجوههن بشر بعد ذُعر، وتوردُّ بعد اصفرار.

ووقفت إحداهن تسوي قبعتها الأنيقة على شعرها الحريري، وتسأل زميلاتها:

- هل تعرفن من معنا على متن الطائرة؟

- من؟

- لا أقل من الدكتور هالين، إيريك هالين.

وسألت إحداهن:

- ومن هو الدكتور هالين؟

فأجابتها أخرى:

- خبير هيأة الأمم المتحدة في مكافحة الإشعاع الذري.

وعلقت الأولى:

- أنفس دماغ في العالم اليوم!

وسألت أخرى:

- هل هو متزوج؟

فحملت الأولى صينيتها، وأسرعت نحو الدرجة الأولى قائلة:

- أنا أسبقكن إلى لقائه!

وانحنت بالصينية، ونظرت إلى الدكتور هالين وهو يلتقط الكأس، فاتسعت عيناها السماويتان وفتحت فمها في دهشة سعيدة مصنوعة:

- دكتور هالين؟

- نعم.

- أنا سعيدة بلقائك. سمعت وقرأت عنكم كثيراً في صحافتنا السويدية.

- شكراً على اهتمامك. لم أكن أعتقد أن الحسان يتتبعن أحوال الشيوخ مثلى.

وضحك هو ورفيقه. فقالت مستنكرة:

- ماذا تقول؟ أنت ما تزال في ريعان الشباب.

وتدخل الدكتور ناكاتا مادا كأسه للمضيفة:

- سأشرب نخب ذلك!

وضحك الثلاثة.

وبعد العشاء والسينما، دفع الدكتور هالين كرسيه إلى الوراء. فجاءته المضيفة بوسادة وغطاء نشرته على ركبتيه، وأطفأت النور هامسة:

- ليلة سعيدة!

ونام الدكتور هالين ليستيقظ في مكان لم يكن يحلم به...

-2-

وقف الدكتور على نادر، العالم الأنثروبولوجي الشاب، وسط حلقة من المعجبين والمعجبات بنظرياته المستقبلية الجريئة، يستحم في ثنائهم السخي على كتابه الجديد (عصر الإنسان)، ويرد على أسئلتهم، عقب حفل التكريم الذي أقامته له الجمعية الملكية البريطانية للأنثروبولوجيا في مركزها بلندن. وإلى جانبه وقفت كاتبته ومساعدته وتلميذته الباكستانية الشابة، تاج محيي الدين، لابسة ساريا أخضر فاتحاً، زاد وجهها الخمري الجميل نضرة وجمالاً..

والتفت الدكتور علي نادر إلى خادم الجمعية العجوز الذي انحنى يهمس في أذنه:

- دكتور نادر، أنتم مطلوبون للهاتف، أخشى أن المكالمة مستعجلة.

واعتذر الدكتور نادر لمن حوله بابتسامته المضيئة، وخرج من الحلقة خلف الخادم العجوز الذي قاده إلى مكتب المدير، وناوله السماعة بيد في قفاز أبيض. وقعد الدكتور نادر على طرف المكتب:

- آلو.

- الدكتور على نادر؟

- نعم، من؟ فيليب؟

- اسمع يا علي، ليس لي وقت لتهنئتك الآن. هناك خبر سيظهر على التلفزيون في ظرف دقيقة أو اثنتين. هل هناك جهاز قريب منك؟

ونظر الدكتور نادر حواليه، فرأى جهازاً بركن المكتب:

- نعم هنا واحد.

- أشعله وضعه على قناة الـ"بي. بي. سي"، المحطة الأولى. إلى اللقاء.

وعلق، فنظر نادر إلى السماعة باستغراب، ثم أرجعها إلى محلها، وخَطَا نحو الجهاز، فأشعله ووقف يذرع الغرفة، وينتظر ظهور الصورة.

وسمع قرعاً خفيفاً على الباب فقال:

- ادخل.

وانفتح الباب، وظهر من خلفه وجه تاج وعليه سؤال معلق. فأشار لها هو أن تدخل، وأمسك بيدها:

- آسف يا عزيزتي إذا تأخرت عنك. كلمني فيليب، وقال لي إن خبرا يهمني سيظهر على التلفزيون الآن.

وبرقت عين تاج فتساءل نادر بنظرة قلقة، فقالت:

- لابد أن يكون كتابك! حلقة مناقشة حوله. أليس ذلك عظيماً؟ هل يمكننا البقاء هنا لمشاهدة البرنامج بأسره؟

وجاء صوت المذيع قبل ظهور صورته وهو يقول:

"نقاطع هذا البرنامج لنأتيكم بهذا الخبر المستعجل:".

وظهر وجه مذيع آخر ينظر إلى ورقة في يده، ثم ينزع النظارة، ويرفع وجهه ليواجه الكاميرا وبدأ:

"خبر في منتهى الغرابة، وصلنا من الدار البيضاء بالمغرب، مفاده أن الدكتور هالين الخبير السويدي المعروف في مكافحة الإشعاع الذري، والحائز على جائزة نوبل في أبحاثه في ذلك الميدان، اختفى من طائرة عابرة المحيط وهي في الجو- أعيد: في الجو بين نيويورك والرباط".

وأعاد النظارة إلى عينيه، وتناول الورقة أمامه، فقلبها بين يديه، ثم أضاف:

"سنوافيكم بما يجد في الموضوع في حينه. ما هو تاريخ اليوم؟ أرجو ألا يكون فاتح ابريل!".

واختفى المذيع، وعاد برنامج "شارع التتويج"، ولكن الدكتور على نادر بقي يحملق في الشاشة مأخوذا بالخبر، مخدر الإحساس، ساهيا عن وجود تاج معه في نفس الغرفة، وبقيت هي صامتة محترمة ذهوله حتى لا تحرجه.

ورن جرس الهاتف فأيقظه من شردوه. كان رنيناً حاداً بالنسبة للصمت المفاجىء الذي عاد إلى المبنى بعد خروج الجميع.

والتقط الدكتور نادر السماعة، قبل أن يرن الجهاز مرة ثالثة. وفي الطرف الآخر كان فيليب الذي سأل بدون مقدمة:

- ما رأيك؟

- لا أدري. ما رأيك أنت؟

- هل أنت ذاهب لبيتك الآن؟

- نعم، لماذا؟

- في الساعة الحادية عشرة سيصلنا خبر مفصل، وقد يمكن أن تصلنا صورة المؤتمر الصحافي الذي ستدعو إليه شركة الطيران في الرباط. وقد تُلقي بعض الأضواء على هذا الغموض الغريب.

- لابد أنه غلط. فلا يختفي المسافرون من الطائرات في عنان السماوات...ونظر الدكتور على نادر إلى ساعته، ثم ودع فيليب، ووضع السماعة وهو يقول، وكأنه يحدث نفسه:

- لم يبق إلا نصف ساعة للأخبار.

وظهر على باب المكتب شبح الخادم العجوز في حلته الرسمية، كأنه قطعة من أثاث المبنى القديم، ورفع الدكتور نادر عينيه متسائلاً، فقال الخادم:

- سيدي، إذ كنتم في حاجة إلى سيارة أجرة فهناك واحدة بالباب.

- نعم. نحتاج إلى سيارة. شكراً.

وأمسك الخادم بالباب، فخرجت تاج وتبعها الدكتور نادر، والخادم خلفهما يقول:

- أخذت حرية المجيء بمعطفيكما إلى الداخل حتى لا تتعبا في العودة مرة أخرى إلى قاعات المآدب.

- شكراً لك.

ووضع الدكتور على نادر معطف تاج على كتفيها، وألبسه الخادم معطفه وفتح لهما الباب على شارع مبتل بمطر خفيف تعكس أرضه أضواء الشارع واللافتات التجارية الملونة. وأعطى الدكتور نادر العنوان للسائق:

- 48 كارلايل سكوير، من فضلك.

وفتح الباب لتاج ودخل السيارة السوداء الفارغة وقعد إلى جانبها ملقياً برأسه إلى الخلف.

وجاء صوت السائق من خلف الزجاج الفاصل:

-حظنا حسن هذه الساعة. لم يبق على المسارح والسينماهات إلا دقائق لتخرج جمهورها، فيكثر المرور والازدحام.

وأخذ يتكلم عن مطاعم لندن وجوها، والدكتور نادر وتاج ينتظران أن يكف عن الكلام في صمت، وصبر السيارة منطلقة في الشوارع الملتوية تضيق مرة وتتسع أخرى، والمارة بمظلاتهم يملأون الأرصفة وواجهات الدكاكين المضاءة، والبنات بديولهن القصيرة وأحذيتهن العالية السيقان وجوارهن الملونة ووجوههن المصبوغة وأهدابهن الصناعية، تعطي المدينة مظهراً حالماً غير واقعي، كأنه في صفحات كتاب ملون.

وعادت ذاكرة الدكتور نادر به في ومضة خاطفة إلى بلدته الصغيرة على البحر الأبيض. فاستعرض في خياله الشوارع القصيرة الجدران، المبلطة بالحصى الأبيض، والبيوت المربعة الأوباب بنقاراتها المستديرة أو المنحوتة في شكل يد يحمل كرة حديد والحيطان البيضاء المائلة إلى الزرقة، والنساء والرجال الملفوفين في الأصواف ناعسي العيون يتحركون كظلال الأشجار على الأسوار القديمة.

وتحركت السيارة بعد وقفة طويلة عند ضوء أحمر، فأفاق من شروده، واغتنم فجوة سكوت السائق، فدفع اللوح الزجاجي الفاصل بينهما، وعاد يتكىء ويبحث في ذهنه عن موضوع حديث مع تاج. وأخيراً تذكر:

- كدت أنسى.
Admin
Admin
مدير المنتدى
نقاط التميز: 1514
مدير المنتدىنقاط التميز: 1514

ذكر عدد الرسائل : 492
العمر : 38
العمل/الترفيه : الأنترنيت كرة القدم
تاريخ التسجيل : 20/07/2008

https://startaza.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى